Duration 4:54

كيف فكر العلماء ( غير العرب) وهم يعالجون قضايا البلاغة العربية؟ الإجابة في الوصف. Tunisia

Published 2 Sep 2021

فرق بين أن تفكر في الشيء وبين أن تفكر داخل الشيء، وسيبوية لم يكن يفكِّرُ في قضايا النحو من خلال ثقافته الفارسية ، وإنَّما كان يُفكِّرُ داخلَ الثقافة العربية التي أنتجتْ ذلك النحوَ ، وما حديثه عن تقديم المفعول به على فعله أو فاعله إلّا من خلال تلك الزاوية، أتراه فكَّرَ في التقديم ذاته، أمْ فكَّرِ في العقلية التي أنتجته وذلك في قوله:" وهو عربيٌّ جيدٌ كثيرٌ، كأنَّهم إنِّما يقدمون الذي بيانه أهمُّ لهم، وهم ببيانه أعنى، وإن كانا جميعًا يُهمانِهم ويُعنيانِهم"( ) فالتقديمُ عربيٌ جيدٌ وليس يونانيًّا أو فارسيّا، ويقول أيضا:" وجميع ما وصفناه من هذه اللغات سمعناه من الخليل رحمه الله ويونس عن العرب. ( ) والخليل ويونس عربيَّان، وليسا من الأعاجم، فالخليل تميمي أزدي ولد في عُمان عام 100هـ وتوفي في عام 170هـ، ويونس بن حبيب من أئمة نحاة البصرة ولد في بلدة صغيرة تسمى(جبُّل) بين بغداد وواسط بالعراق، وكان مولده عام 94هـ وتوفي عام 182هـ. وأبو عبيدة في جوابه عن سؤال السائل حول التشبيه في قوله تعالى: ﴿طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ ﴾ الصافات الآية 65 لم يعوِّلْ على شيء غيرَ طرائقِ العربِ، ومن ثمَّ كان الاستشهادُ بقول امرئ القيس: أيقتلني والمشرفي مضاجعي * ومسْنُونَة زرق كأنياب أغوال( ) وبشار عندما أنشد قوله: بكرًا صاحبي قبل الهجير ... إنَّ ذاكَ النجاحَ في التَّبْكير حتى فرَغ منها، فقال له خلفُ: لو قلتَ يا أبا مُعاذٍ مكانَ "إن ذاك النجاحَ في التبكيرِ" بكِّرا فالنَّجاحُ في التَّبْكيرِ" كان أحسَنَ. فقال بشارٌ: إِنما بنَيْتُها أعرابيةً وَحْشيَّة فقلتُ: إنَّ ذاكَ النجاح في التبكير، كما يَقولُ الأعرابُ البدويون، ولو قلتُ: "بكِّرا فالنجاحُ"، كانَ هذا من كلامِ المولَّدينَ، ولا يُشْبِهُ ذاكَ الكلامَ، ولا يَدْخُل في معنَى القصيدةِ، فقامَ خلَفُ فقبَّلَه بَيْنَ عينيه"( ). فبشار قبل أن ينطقَ بالبيتِ فكَّرَ داخل الثقافة العربية، ونسجَ على منوال طرائق العرب، وابن جني -وهو ليس بعربي- يرى أن ما قِيسَ على كلام العرب فهو من كلام العرب، فيقول: وكيف تصرفت الحال فالناطق على قياس لغة من "لغات العرب" مصيبٌ غيرُ مخطئ, وإن كان غير ما جاء به خيرًا منه. ( ) وذلك لتواتر لغة العرب خلفًا عن سلف تواترًا وصل إلى حد اليقين يقول ابن جني:" واعلم أنك إذا أداك القياس إلى شيء ما ثم سمعت العرب قد نطقت فيه بشيء آخر على قياس غيره فدع ما كنت عليه إلى ما هم عليه. فإن سمعت من آخر مثل ما أجزته فأنت فيه مخير: تستعمل أيهما شئت. ( ) وعبد الله بن سلام الجمحي يرى أنه لا يضبط الشعر إلّا أهله من الأعراب فيقول:" وجدنا رواة العلم يغلطون فى الشعر، ولا يضبط الشعر إلا أهله، وقد تروى العامة أنَّ الشعبى كان ذا علم بالشعر وأيام العرب" ( ). وابن قتيبة الدينوري يرى اقتصار الغريب على العرب الخُلَّصِ لأنَّهم أعرفُ الناس به فيقول:" وليس للمُحْدثٍ أن يتبع المُتقدِّمَ فى استعمال وحشيِّ الكلام الذى لم يكثر، ككثير من أبنية سيبويه، واستعمال اللغة القليلة فى العرب ( ). وعبد القاهر لا يرى المَزِّيةَ إلَّا فيما تعارفتْ عليه العربُ، ولذا يرى وجوب الاقتصار في شأن الاستعارة على طرائق العرب فيقول:" ، وكان ينبغي أن لا تجب المزية بما يبتدئه الشاعر والخطيب في كلامه من استعارة اللفظ لشيء لم يستعر له، وأن لا تكون الفضيلة إلا في استعارة قد تُعورفتْ في كلام العرب( ) والآمدي لا يعتد في الشعر بطريق غير طريقة العرب، مهما بلغ المتكلم من فلسفة يونان أو حكمة الهند أو أدب فارس فيقول: وإذا كانت طريقة الشاعر غير هذه الطريقة، وكانت عبارته مقصرة عنها، ولسانه غير مدركٍ لها حتى يعتمد دقيق المعاني من فلسفة يونان أو حكمة الهند أو أدب الفرس، ويكون أكثر ما يورده منها بألفاظ متعسفة ونسج مضطرب، وإن اتفق في تضاعيف ذلك شيء من صحيح الوصف وسليم النظم قلنا له: قد جئت بحكمة وفلسفة ومعانٍ لطيفة حسنة، فإن شئت دعوناك حكيمًا، أو سميناك فيلسوفًا، ولكن لا نسميك شاعراً، ولا ندعوك بليغاً؛ لأنَّ طريقتك ليست على طريقة العرب، ولا على مذاهبهم، فإن سميناك بذلك لم نلحقك بدرجة البلغاء، ولا المحسنين الفصحاء( ). وابن طباطبا يرى أن ما كان من أوصاف وتشبيهات وحكم عند العرب إنما هى من واقع بيئتها، فيقول:" واعلم أنَّ العربَ أودعتْ أشعارَها من الأوصافِ والتشبيهاتِ والحكمِ ما أحاطتْ به معرفتُها، وأدركه عيانها، ومرت به تجاربها. ( ) والزمخشري يدرك أن القرآن نزل بلغة العرب ولا تفهم معانيه إلا من داخل ثقافة العرب، فيقول:" وباب التمثيل واسع في كلام الله تعالى ورسوله عليه السلام، وفي كلام العرب. ( ) ومن ثمَّ نراه ينعي على الذين قعد بهم الجهل عن معرفة طرائق العرب فوقعوا في التجسيم فحملوا المعنى على خلاف مراد الله، بينما حمله الزمخشري على التمثيل في قوله تعالى:( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [ الزمر الآية67] فسيبويه وأبو عبيدة معمر بن المثنى وابن قتيبة والجاحظ وابن جني وأبو هلال والآمدي وعبد القاهر والزمخشري لم يكونوا عربًا بالنسب، وإن كانوا عربًا بالانتماء إلى العربية، ومما يدل على عربيتهم الأصيلة أنهم لم يعالجوا قضايا اللغة من خارجها، بل فكروا داخل الثقافة العربية، وكأنهم لا يحسنون غير العربية " والتفكير داخل ثقافة معينة لا يعني التفكير في قضاياها، بل التفكير بواسطتها( ) وإذا كانت النصوصُ التي سبقتْ قد تظاهرتْ على أنَّ الذين عالجوا التأليف من غير العرب قد تأثروا بالثقافة العربية الأصيلة التي لم تشبها شائبة في العصر الجاهلي وصدر الإسلام فلا مجال للقول بتأثر الفكر البلاغي -في مراحله الأولى- بغيره من بلاغات الأمم الأخرى، إلَّا إذا دلتْ على ذلك دلائل، كما ينبغي ألَّا نبالغ في ذلك حتى لا نقع فريسةً لتهوين كلِ ما هو عربيٌّ، أو ضحيةَ التهويل لكل ما هو وافدٌ.

Category

Show more

Comments - 6